مدونة

لقاء ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض.. مناورة سياسية أم إخفاق دبلوماسي؟

مصر : محمد جوهر حامد

إن الجمع بين التحليل السياسي والنفسي لفكِّ شفرة واحدة من أكثر اللقاءات إثارةً للجدل، لتقديم رؤيةً متعمقةً حول كيف تُصاغ الأحداث الكبرى على مسرح الجيوبوليتكس، والتي تختلط الحقائق فيها بالتمثيل، والمصالح بالغرور، في مشاهد تستقطبَ الأنظار عالميًّا، يعد أحد الاساليب لفهم وشرح مايحدث في العالم.

فقد شهد اللقاءُ الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض تصعيدًا لافتًا، فقد تحوَّل من حدثٍ دبلوماسي مُنتظَر إلى مواجهةٍ علنية حادّة، وكان مُفترضًا أن يُتَوَّجَ اللقاءُ بتوقيع اتفاقيةٍ حول المعادن، طالب بها ترامب لتعزيز الصناعات الأمريكية، لكن الجلسة انتهت دون توقيع، وسط اتهامات متبادلة بالمسؤولية عن الإخفاق، وهنا يبرز سؤالٌ محوري هل استغل زيلينسكي الشخصية النرجسية لترامب، مُحَوِّلًا المواجهة إلى “فخٍّ” نفسي لتجنُّب توقيع اتفاقيةٍ غير مُربحة لأوكرانيا؟.

لا يُمكن فهمُ تفجُّر الأزمة الأخيرة دون العودة إلى تاريخ العلاقة بين ترامب وزيلينسكي، التي شابها التوتر منذ البداية. ففي عام 2019، وصلت الأزمةُ ذروتَها مع فضيحة “عزل ترامب”، حيث اتُّهِمَ الأخيرُ بالضغط على أوكرانيا للتحقيق مع خصمه السياسي جو بايدن مقابل إطلاق مساعدات عسكرية. آنذاك؛ برز زيلينسكي كشخصيةٍ بارعة في تفادي الوقوع في شباك الصراعات الداخلية الأمريكية، رغم ضغوط ترامب الهائلة، واليوم؛ يبدو أن اللعبة تتكرر، لكن مع اختلاف السياق، فترامب الذي عاد الى البيت الأبيض، يمتلك نفوذًا في المشهد السياسي، وزيلينسكي صار أكثر حنكةً بعد سنوات من الحرب مع روسيا.

حسب مصادر مقرَّبة من البيت الأبيض، كان ترامب يأمل في تحقيق انتصار إعلامي عبر الاتفاقية المزعومة، والتي تهدف إلى زيادة صادرات أوكرانيا من المعادن الاستراتيجية (كالفولاذ والتيتانيوم) إلى الولايات المتحدة، بأسعارٍ تفضيلية. لكن زيلينسكي، وفقًا للرواية نفسها، رفضَ التسرُّع في القبول، مُشيرًا إلى أن أيَّ اتفاقٍ يجب أن يراعي مصالح أوكرانيا الاقتصادية وأولوياتها في الحرب، وتصاعدت حِدَّة النقاش عندما وصف ترامب الموقفَ الأوكراني بـ”الضعف”، بينما ردَّ زيلينسكي بالتشكيك في نوايا ترامب، مُتسائلًا: “هل نحن أصدقاء أم مجرد عملاء؟”.

بالعودة الي تحليل الشخصيات؛ تُشكِّل الشخصية النرجسية لترامب عاملًا جوهريًّا في تحليل الأحداث. فوفقًا لدراسات نفسية عديدة، يتميز ترامب بـالحاجة الماسّة للإعجاب فهو يربط قيمته الذاتية بانتصارات علنية، حتى لو كانت صورية، وكذلك الحساسية للنقد؛ فأيُّ اعتراضٍ على رأيه يُعَدُّ هجومًا يستوجب الرد، بالإضافة الى التركيز على الصفقات الكبيرة، حيث يفضل الصفقات التي تُبرز اسمه كبطل، حتّى لو كانت تفاصيلها غير مُجدية.

هذه السمات جعلت منه هدفًا سهلاً للقادة الأذكياء الذين يعرفون كيف يلعبون على وتر الإطراء أو الاستفزاز. فمثلًا، استخدم الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون تكتيك “الإعجاب المتبادل” لامتصاص غضب ترامب، بينما استغل الرئيس الفرنسي ماكرون النقد العلني لإثارة استجابةٍ عاطفية منه. لكن الخيار لزيلينسكي كان “الاستفزاز المُحسوب” لدفع ترامب إلى رفض الاتفاقية، بدلًا من ان يبدو أنه الطرفَ المتراجع.

لا يُخفى على أحدٍ أن زيلينسكي، القادم من عالم التمثيل، يُتقن فنَّ إدارة الصور والخطابات، فخلال الحرب، استطاع تحويل نفسه إلى رمزٍ عالمي للمقاومة، من خلال خطاباتٍ مؤثرة وزياراتٍ ميدانية جريئة، أما في تعامله مع ترامب، يبدو أنه استخدم أدواتٍ مشابهة كاللعب على التناقضات بإثارة أسئلة حول نوايا ترامب، جعله في موضع المساءلة أمام الرأي العام، واتقن تحويل المواجهة إلى دراما من خلال المشادة العلنية التي لم تكن مجرد خلافٍ عابر، بل مشهدٌ مُصمَّم لإبراز موقف أوكرانيا كـ”ضحية” للضغوط الأمريكية، واستغل السياق الإعلامي مثلما يفعل الممثلون، فقد اختار زيلينسكي اللحظةَ المناسبة (كاجتماعٍ في البيت الأبيض) لتعظيم تأثير الرسالة.

ورغم ضبابية تفاصيل الاتفاقية، يُمكن استنباط خطوطها العريضة من خلال سياق سياسة ترامب الاقتصادية، فالجانب الأمريكي يسعى لتقليل اعتماده على الصين في استيراد المعادن النادرة، وأوكرانيا – الغنية بهذه الموارد – شريكٌ محتمل. لكن شروط ترامب، والمُفترَض أنها تضمَّنت أسعارًا أقل من السوق، كانت ستجعل الصفقة مجحفةً لأوكرانيا، أما الجانب الأوكراني؛ فقبوله الاتفاقية يعني تعريض الاقتصاد الأوكراني – الذي أنهكته الحرب – لمزيدٍ من الأزمات، فضلًا عن تعزيز سردية روسيا عن “استغلال الغرب لأوكرانيا”، وهنا؛ يبرز ذكاء زيلينسكي في رفض الصفقة دون تحمُّل تبعات الرفض المباشر، عبر تحويل ترامب نفسه إلى طرفٍ مسؤول عن الفشل.

بحسب نظرية “التلاعب بالنرجسيين”، التي يطرحها اختصاصيو علم النفس السياسي، يُمكن استغلال نقاط ضعف الشخصية النرجسية عبر تحفيز غريزة المنافسة أي جعل النرجسي يشعر بأنه في معركةٍ يجب كسبها ، وكذلك بتوجيه الإهانة بشكل غير مباشر عبر طرح أسئلةٍ تستفزُّ غروره دون مواجهة صريحة، بالإضافة الى الانسحاب الاستراتيجي من خلال ترك النرجسي ينسحبُ بنفسه ليتفادى الشعور بالهزيمة، وطبَّق زيلينسكي هذه العناصر بمهارة، فقد أشعل المنافسة عبر التشكيك بصداقة ترامب، واستفزَّ غروره بوصف مطالبته بـ”غير العادلة”، ثم سمح له بالانسحاب تحت ذريعة “عدم جاهزية أوكرانيا”، والنتيجة؟ ترامب يرفض الصفقة ظاهريًّا، بينما زيلينسكي يحافظ على موقفه دون كلفة سياسية.

بعيدًا عن المسرح الأمريكي، حقَّق زيلينسكي أهدافًا استراتيجية أوسع فقد عزز صورة القيادة المستقلة بإظهار أنه لا ينحني حتى للضغوط الأمريكية، وكسب التعاطف الأوروبي حيث يُفضِّل الاتحاد الأوروبي تعاملاً متوازنًا مع أوكرانيا، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وظهر ذلك بوضوح في تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون في تعقيبه على ما حدث بالبيت الأبيض، والنقطة الأهم هي إرسال رسالة إلى روسيا بأن أوكرانيا قادرة على المناورة بين القوى العظمى، أمّا ترامب؛ فخسرَ فرصةً لتعزيز نفوذه الخارجي، مع تعريض سمعته لانتقاداتٍ جديدة حول فاعليته في إدارة الصفقات.

إن الحادثةُ الأخيرةُ ليست مجرد نزاعٍ عابر، بل نموذجٌ لصراع القوى غير المتكافئة في العلاقات الدولية؛ فزيلينسكي بذكاءٍ استثنائي حوَّلَ نقاط ضعف خصمه إلى أداة للنجاة، مستفيدًا من فهمه العميق لسيكولوجيا ترامب. لكن السؤال الأعمق يبقى (إلى متى يُمكن للدول الصغيرة أن تعتمد على “حيل” نفسية لموازنة القوى العظمى؟)، والإجابة ربما تكمن في إدراك أن السياسة، في عصر الشعبوية والإعلام المُتفجِّر، صارت لعبةً لا يُربحها إلا من يجيدُ تحويل الشخصيات إلى شخصياتٍ درامية.

Hany Khater

د. هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، إضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام. يشغل منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان في كندا، وهو أيضًا رئيس تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المواقع الأخرى. يعد هاني خاطر صحفيًا ومؤلفًا ذو خبرة عميقة في مجال الصحافة والإعلام، متخصصًا في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات. يركز في عمله على تسليط الضوء على القضايا المحورية التي تؤثر على العالم العربي، ولا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. على مدار مسيرته المهنية، نشر العديد من المقالات التي تتناول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة في بعض الدول العربية، فضلًا عن القضايا المتعلقة بالفساد الكبير. يتميز أسلوبه الكتابي بالجرأة والشفافية، حيث يسعى من خلاله إلى رفع مستوى الوعي وإحداث تغيير إيجابي في المجتمعات. يؤمن هاني خاطر بدور الصحافة كأداة للتغيير، ويعتبرها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومحاربة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!